هور الحويزة
بعد اجتياح العدو الإيراني هور الحويزة عام 1985 واقترابها من مدينة القرنة التي أصبحت مهددة بالسقوط في أيدي العدو في أي لحظة .. بقي لواؤنا صامداً وهو يقاتل في جيب ضيق بين منطقة ( مزيرعة ) .. وجسر القرنة ..
كانت خسائرنا كبيرة .. والجنود كان يقاتلون في أماكنهم حتى الاستشهاد .. فيستشهدون من شدة القصف الكثيف والاشتباك القريب .. وأما الجرحى فبقوا دون إخلاء حتى ماتوا في الخنادق .. وحتى أن آمر اللواء أخبرنا أنه ليس هناك قوات ساندة قريبة تفك الحصار عنا ... ويجب علينا القتال حتى الموت ولو بالسلاح الأبيض ..! .
وقد تناقلت بعض الإذاعات خبر محاصرتنا هناك وأن لواءنا قد أُبيد أغلب مقاتليه وسيستسلم البقية منهم إلى العدو الإيراني عن قريب .. ولا أدري كيف وصل الخبر إلى أهلي في كربلاء .. ! . في اليوم الرابع .. وكان القصف على أشده ورائحة الموت تلف المكان جاء سائق الإسعاف المقاتل " عمر " من أهالي الغربية وهو يسأل عن اسمي .. فأرشدوه إلى الساتر الذي نقاتل دونه .. ولما وصل إلي وأنا في الخندق وكنت لا أستطيع أن أفتح جفني من شدة التراب والدخان والسهر .. قال : أنت عبد الهادي من كربلاء .. قلت نعم .. قال .. والدتك تنتظرك منذ ليلة أمس عند رأس الجسر عبر النهر من جهة القرنة ... وهي لم تترك أحداً يمر بها إلاّ توسلّت به وحمّلته أمانة أن يصل إليك ويخبرها عن وضعك .. لأن هناك أخبار وصلتهم تقول بأنك جريح وأخبار أخرى تقول بأنك شهيد ولازالت جثتك في الأرض الحرام .. ويجب أن تسرع إليها لتطمأن عليك .. !! . عند سماعي هذا الخبر .. لا أستطيع أن أصف لكم الذهول والصدمة التي أصابتني تلك اللحظة .. أمي تنتظر هناك منذ ليلة أمس .. وهذا القصف المدوي والموت وزعيق المدافع .. كيف جائت من كربلاء إلى الجنوب ... كيف وصلت .. من الذي أتى بها .. كيف ..؟ ! . نسيت نفسي .. لم أعبأ بالقصف أو القنص وأزيز الرصاص المستمر .. خرجت من الخندق وركضت باتجاه ملجأ آمر سريتنا الرائد " يوحنا " من أهالي الموصل .. أخبرته بالقصة .. فرأيت ثمة دمعة نزلت على خديه .. وسمح لي بالانصراف والوصول إلى أمي لأُطمئنها بإني لازلت حياً .. كانت المسافة بين الجسر والساتر حوالي 800 متراً .. ركضت تلك المسافة بكل قوة دون شعور .. ولم أتذكر بأني ركضت في حياتي كلها مثل تلك المسافة رغم ثقل الملابس والخوذة والبندقية !! .. أردت العبور على الجسر .. فمنعتني مفرزة الاستخبارات هناك .. وقالوا لي : عليك أن تعبر عن طريق الزورق إلى الضفة الأخرى .. ولكنني جازفت .. وركضت فوق الجسر الذي كانت قذائف المدفعية والراجمات الإيرانية تتساقط كالمطر على يمينه ويساره حتى ملأته الثقوب والفجوات وراح يترنح ويهتز من كل مكان كأنه يهوى في النهر .. ولم أنس تلك اللحظة .. اللحظة التي لمحت فيها سوادة من الطرف الآخر لنهر دجلة وهي ترفع ذراعيها تارة إلى السماء وتارة نحوى .... كانت أمي تحتمي من القصف مع بعض الجنود وسط حفرة دائرية كبيرة محاطة بأكياس من الرمل وقد غمرها التراب والدخان ... ولما لمحتني قادماً من بعيد وقفت على طولها .. وأرادت أن تتلقاني فوق الجسر ولكن الجنود منعوها وهم يصيحون بها : خاله .. أبقي في مكانك .... القصف مستمر والشضايا تتطاير في كل مكان ... وابنك ها هو قد وصل .. أنزلي رأسك .. لا تموتين .. ! . ولكن أمي لم تطأطئ رأسها .. وبقيت واقفة كالشبح مسمرة عينيها نحوي .. وأخيراً التقينا ... كانت الدموع هي الكلام بيننا لمدة نصف ساعة وأنا في حجرها شعرت كأني رجعت طفلاً صغيراً .. نظرت بوجهها كان غمامة من تراب ودخان .. وعيناها شاحبتان متورمتان من السهر والتعب والقلق الذي أضناها .. أخذت أعاتبها وأنا أبكي : لماذا أتيت من كربلاء وقطعت كل هذا الطريق الخطر وأنت مريضة ....هذه حرب وأنت تعرفين هذا هو مصير الجنود في الحرب ياأمي !؟....فقالت ..صحيح هذه حرب ..ولكنني أم ..هل تعرفون ماذا يعني لكم الأم ..!؟؟ فرأيت الجنود القريبين منا يبكون لكلامها ...! وبعد أن إطمئنت على سلامتي مؤقتاً ..كان آخر حديث بيننا في ذلك اللقاء القصير قالت لي أمي : أنا الآن قد عاد لي نصف قلبي .. وأما النصف الآخر فقد احترق وانتهى في الطريق ... قلت سلم الله قلبك .. خيراً ؟ !! ، أمي لماذا أحترق نصف قلبك في الطريق .. ؟ . قالت .. لكثرة ما مرت بنا جنائز الشهداء الملفوفة ّبعلم العراق وهي تتجه صوب المدن العراق .. كل جنازة تمر هي لاشك ستثكل أماً مثلي .. وكلما وقعت عيني على جنازة شهيد أشعر بنوبة قوية تضربني كطعنة السكين في صدري .. فتدمي وتتلف جزءاً من قلبي . ! . وفعلاً .. وبعد 3 سنوات من تلك الحادثة عام 1988 توفيت والدتي بسبب تلف كل صمامات قلبها .. وتوقف قلبها المتعب إلى الأبد .. ! .
Comments